أطفال في مرمى النار، كيف تحولت دور الأيتام ومراكز الأحداث إلى محطات عبور نحو التجنيد القسري؟

فبراير 28, 2025 - 16:10
مارس 1, 2025 - 02:32
 0  46
  أطفال في مرمى النار، كيف تحولت دور الأيتام ومراكز الأحداث إلى محطات عبور نحو التجنيد  القسري؟

خاص لمنصة أطفال اليمن 
حسين جابر
أ
حلام محمد 

 في زوايا النسيان، حيث يُفترض أن تكون دور الأيتام ملاذًا آمنًا للأطفال المحرومين، تتحول تلك المؤسسات إلى محطات عبور نحو مصير مجهول. وفي ظل واقع يفرضه الفقر والتلقين الأيديولوجي، يجد كثير من الأطفال أنفسهم داخل مراكز احتجاز ومؤسسات تُعيد تشكيل وعيهم ليكونوا وقودًا لمعارك لم يختارها أحد منهم.

كان "علي"، 14 عامًا، أحد هؤلاء الأطفال الذين فقدوا طفولتهم قبل أن يفهموا معنى الحرب. تيتم بفعل الصراع، فوجد نفسه في دار الأيتام بصنعاء، والتي لم تكن سوى محطة مؤقتة قبل أن يُزج به إلى الحرب. عبارات مشحونة بالعقيدة والولاء، ووعود زائفة بالبطولة، كانت كافية لدفعه إلى طريق اللاعودة.

وبعد شهور من اختفائه، وصل الخبر المفجع، "علي قُتل في إحدى الجبهات". يروي أحد أفراد عائلته لـ"منصة أطفال اليمن"، "لم يكن سوى طفلٍ يحلم بأن يصبح طبيبًا، لكنهم أقنعوه بأن البندقية هي مستقبله الوحيد لم نعرف مكانه إلا عندما جاءنا خبر موته".

لم يتبقَ من جسد علي سوى أشلاء متناثرة، وكأن من زجوا به في الحرب لم يكتفوا بسرقة طفولته، بل سرقوا حتى فرصة وداعه الأخير.

 

نمط متصاعد للانتهاكات 

قصة علي ليست استثناء، بل تمثل جزءًا من واقع  يتكرر فيه المصير ذاته لعشرات الأطفال، الذين يجدون أنفسهم في قلب المعارك بعد أن تم تجنيدهم قسرًا من دور الأيتام، ومراكز الأحداث، ومخيمات النزوح، وفي ظل غياب أي حماية قانونية فعلية، يتحول هؤلاء الأطفال إلى وقود للحرب، يُقتلون أو يُصابون بعاهات جسدية ونفسية دائمة، بينما تُترك أسرهم لمواجهة صدمة الفقدان دون إجابات أو مساءلة. تجنيد هؤلاء الأطفال  لا يتم فقط عبر الإكراه المباشر، بل يُمارَس بأساليب ممنهجة من التلقين العقائدي والاستغلال النفسي والاقتصادي. 

الفرضية التي يؤكدها هذا التحقيق تكشف عن نمط متصاعد من الانتهاكات، حيث يُقتل ويُصاب العشرات من الأطفال سنويًا بعد تجنيدهم قسرًا من دور الأيتام، ومراكز الأحداث، ومخيمات النزوح لصالح جماعة الحوثيين وجماعات مسلحة أخرى. هؤلاء الأطفال يُزَج بهم في المعارك دون أي حماية قانونية أو اجتماعية، ما يجعلهم أهدافًا مباشرة للصراعات المسلحة، ويترك آثارًا نفسية وجسدية مدمرة على حياتهم.

 

انتهاك صارخ للقوانين المحلية والدولية 

هذا الواقع يشكل انتهاكًا صارخًا للقوانين المحلية والدولية التي تحظر تجنيد الأطفال واستخدامهم في النزاعات المسلحة. فـ المادتان (145) و(149) من قانون حقوق الطفل اليمني رقم (45) لسنة 2002 تنصان بوضوح على حماية الأطفال الأيتام ومن يعيشون في ظروف صعبة، وحظر إشراكهم في النزاعات المسلحة. لكن رغم هذا الإطار القانوني، تستمر عمليات التجنيد بلا رادع، في ظل غياب أي آليات فعلية للمحاسبة والتنفيذ. على المستوى الدولي، يُعتبر تجنيد الأطفال جريمة حرب وفقًا لاتفاقية جنيف، والبروتوكول الاختياري الملحق باتفاقية حقوق الطفل، والذي يحظر إشراك من هم دون الثامنة عشرة في الأعمال القتالية. ومع ذلك، تبقى هذه القوانين مجرد نصوص غير مفعلة في ظل النزاع المستمر.

 

يؤكد الباحث والمستشار في العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان، محمد الوتيري، أن استهداف الفئات الأكثر ضعفًا، مثل الأيتام والأطفال في مراكز الأحداث وسكان مخيمات النزوح، يجعل من تجنيد الأطفال جريمة مضاعفة. ويوضح أن الأمر لا يقتصر على حمل السلاح، بل يشمل الاستدراج القسري، والتلقين الأيديولوجي، واستغلال الظروف الاقتصادية والنفسية القاسية التي تدفع الأطفال للانخراط في الحرب كخيار وحيد. وقال "استغلال دور الأيتام ومراكز الأحداث بهذه الطريقة يعكس استغلالًا ممنهجًا للأطفال، ويحوّل هذه المؤسسات من أماكن للرعاية إلى معسكرات تدريب مقنعة".

 

استغلال نفسي وتلاعب بالعقول

فريق التحقيق وفي بحث أجراه  بين أغسطس 2024 وفبراير 2025 شمل أربع محافظات هي، أمانة العاصمة، صنعاء، ذمار، وعمران، كشف عن تجنيد ممنهج للأطفال عبر دور الأيتام ومراكز الأحداث. واستنادًا إلى عينة البحث و مقابلات ميدانية ومصادر حقوقية محلية، تبين أن 57 طفلًا جُنّدوا بين عامي 2019 و2024، منهم 42 طفلًا من دور الأيتام و15 آخرين من مراكز الأحداث. ورغم أن هذه الأرقام تعتبر مبدئية، إلا أن الأعداد الفعلية قد تكون أكبر بكثير، بحسب منظمات حقوقية.

وتشير عينة البحث إلى أن 30% من الأطفال المجندين تتراوح أعمارهم بين 12 و14 عامًا، بينما يشكل الأطفال بين 14 و17 عامًا 70%. وينحدر معظم هؤلاء الأطفال من أمانة العاصمة، تليها محافظات صنعاء، عمران، وذمار.

بالإضافة إلى ذلك، تكشف البيانات عن إشكالية أخرى تتعلق بتجنيد الأطفال في مخيمات النزوح، حيث لا توجد إحصائيات دقيقة بسبب غياب دراسات أو مصادر موثوقة، ولكن وفقًا لبعض المسوحات السابقة والمعلومات التي حصل عليها فريق التحقيق من قبل منظمات حقوقية، فإن عدد الأطفال المجندين في هذه المخيمات قد يصل إلى المئات. كما تمكن الفريق من توثيق بيانات 19 طفلًا جُنّدوا ضمن مخيمات النزوح خلال السنوات الأخيرة.

 

رحلة البحث عن الهوية

في داخل دور الأيتام، يكشف التحقيق عن أسلوب ممنهج لاستغلال الأطفال. "عبدالله" (اسم مستعار)، مشرف سابق في دار الأيتام بصنعاء، استعرض مع فريق التحقيق قائمة بأسماء أطفال تم الرفع بهم من قبل إدارة الدار الحالية لجهة مجهولة لغرض تجنيدهم ونقلهم من الدار، وقال أن الجماعة تستهدف الأطفال الذين يعانون من الوحدة والانعزال. وأنه لا يتم تجنيد جميع الأطفال، بل يتم اختيارهم وفق معايير نفسية ودراسات دقيقة لملفاتهم الشخصية. 

ويشير عبدالله إلى أن "الدورات الثقافية التي تُنظم في دور الأيتام ليست مجرد محاضرات تعليمية، بل هي استراتيجيات مدروسة لإعادة تشكيل عقلية الأطفال، مما يوجههم إلى خدمة أهداف الجماعة." وقال خلال هذه الدورات، التي تستهدف بشكل رئيسي الأطفال بين 13 و17 عامًا، يتم استغلال المرحلة العمرية الحساسة التي يمرون بها. ويضيف في هذه الفترة، يكون الطفل في حالة بحث عن هوية وانتماء، ما يجعلهم أكثر تأثرًا بالأفكار التي تُعرض عليهم. يُقنع هؤلاء الأطفال أن لديهم مهمة ذات مغزى، وأنهم جزء من شيء أكبر، فيشعرون بالتميز والانتماء.

ووفقًا لنتائج البحث، فإن 61% من الأطفال الذين يتم استقطابهم عبر هذه الدورات لا يعودون إلى حياتهم السابقة. ويصبح هؤلاء الأطفال جزءًا من آلة الحرب، سواء كمقاتلين أو في أدوار إشرافية ضمن الجماعة. وتشير البيانات إلى أن الجماعة تنظم ما لا يقل عن 80 دورة ثقافية سنويًا. 

رئيس المنظمة اليمنية لحماية الطفولة (سياج)، احمد القرشي قال، إن عمليات تجنيد الأطفال في اليمن بلغت مستويات غير مسبوقة، خاصة منذ سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة صنعاء والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية. وأوضح أن انهيار آليات حماية الطفل، وارتفاع معدلات الفقر إلى أكثر من 80%، وانهيار المنظومة التعليمية، كلها عوامل أسهمت بشكل مباشر في استغلال الأطفال عسكريًا.

وأكد القرشي أن عمليات التجنيد لم تقتصر على المدارس والأحياء، بل امتدت إلى دور الأيتام ومراكز الأحداث ومراكز الإيواء، حيث يتم استغلال الأطفال النزلاء والزجّ بهم في النزاع المسلح. وأشار إلى أن بعض هذه المؤسسات أصبحت بيئة خصبة لتعبئة الأطفال بالأفكار القتالية، مستغلين غياب الرقابة وانعدام آليات الحماية، مما يجعل الأطفال أكثر عرضة للتجنيد القسري والاستغلال.

وشدد رئيس منظمة سياج على أن معالجة هذه الكارثة تتطلب وقف الحرب، واستعادة سلطة القانون، وتبني استراتيجيات شاملة لحماية الأطفال، تشمل تحسين سبل المعيشة للأسر الفقيرة، وضمان حق الأطفال في التعليم عبر وسائل بديلة مثل التعليم الإلكتروني، للحد من تجنيدهم وحمايتهم من الاستغلال في النزاع المسلح.

 

مهام قتالية تفوق قدرة الأطفال

من بين 57 طفلًا شملتهم عينة التحقيق، لقي 18 منهم مصرعهم في جبهات القتال، وأصيب 9 إصابات بالغة بعضها أدى إلى فقدان أطرافهم، فيما لا يزال 14 منهم يعملون في نقاط التفتيش والمواقع العسكرية. 

لم يكن تجنيد هؤلاء الأطفال مقتصرًا على التدريب أو المهام الثانوية؛ بل زُج بهم مباشرة في أدوار قتالية خطيرة تفوق قدراتهم البدنية والنفسية. ففي اللحظة التي ينضمون فيها إلى صفوف القتال، يُرسلون إلى جبهات المواجهة كجنود في الخطوط الأمامية، يواجهون الموت دون دراية كافية بتكتيكات الحرب. وفي نقاط التفتيش العسكرية، يُجبرون على التعامل مع المسلحين وفحص هويات المارة، مما يجعلهم هدفًا مباشرًا في أي اشتباك.

يكشف التحقيق عن حالة محمد الطفل الذي نقل من سجن الأحداث بصنعاء، وأُجبر على أداء مهام تفوق قدراته؛  ففي مقابلة أجريت مع فريق التحقيق في مايو 2023، اعترف محمد –الذي كان عمره 15 عامًا حينها– بأنه عمل على نقل الأسلحة والذخائر بين المواقع العسكرية، وأن مشاركته في معارك على الحدود وجبهات متعددة بدأت منذ أن كان عمره 13 عامًا. ولم يكن العنف مقتصرًا على الجوانب البدنية فحسب، بل شمل أيضًا التعرض للتوبيخ والعنف اللفظي والجسدي، فيما وصف محمد تلك التجارب بأنها "صنعته رجلاً".

كما كشف التحقيق، أن بعض الأطفال دُفعوا نحو مهام أكثر خطورة، حيث استُخدموا في عمليات الاستطلاع وجمع المعلومات، مما عرضهم لخطر الاعتقال أو التصفية في حال وقوعهم في الأسر. وفي تصعيد غير مسبوق، أكدت منظمة "سام للحقوق والحريات" أن بعض الأطفال وُجهت للمشاركة في الهجمات البحرية، كما حدث في العمليات الأخيرة التي نفذها الحوثيون في البحر الأحمر، حيث أُرسلوا إلى زوارق مفخخة، ليصبحوا أدوات للدمار دون أية فرصة للنجاة.

 

طفولة في قبضة الحرب

في فبراير/شباط 2021، كشف تقرير مشترك صدر عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان ومنظمة سام للحقوق والحريات أن جماعة الحوثي تستخدم هذه المؤسسات كأدوات رئيسية لاستقطاب الأطفال، حيث تُنقل قسرًا إلى معسكرات تدريب سرية. يدخل الأطفال في دوامة من دروس التلقين العقائدي المكثفة التي تسبق تدريبات عسكرية صارمة، ليُزج بهم مباشرةً إلى الخطوط الأمامية للقتال.

تشير الشهادات الواردة في التقرير إلى أن مراكز الأحداث تُستغل لاستغلال الأطفال المحتجزين، مستغلين ضعفهم وغياب الحماية القانونية. فقد وُجه "عرض" للأطفال للخروج من الاحتجاز مقابل الالتحاق بالجبهات، إلا أن الرفض كان يُقابَل بعقوبات قاسية؛ إذ يتعرض الطفل للضرب المتواصل، والحرمان من الطعام، والعزلة التامة، مما يضطره في نهاية المطاف إلى الاستسلام. بعد ذلك، يُنقل الطفل إلى معسكر مغلق تبدأ فيه مرحلة تدريبه القتالي، لتحويله من طفل محتجز إلى مقاتل مُجبر على المشاركة في معارك لا يختارها.

 توفيق الحميدي، رئيس منظمة سام للحقوق والحريات، أكد أن عمليات التجنيد لم تعد مقتصرة على أطفال القرى الفقيرة، بل توسعت لتشمل الفئات الأكثر هشاشة مثل نزلاء مراكز الاحتجاز والأيتام، الذين حُرموا من العائلة والحماية الاجتماعية، مما جعلهم فريسة سهلة للتجنيد القسري. وأضاف أن التصعيد الأخير في البحر الأحمر دفع جماعة الحوثي إلى تكثيف حملات التجنيد دون تمييز بين المدارس والشوارع ودور الأيتام والمعتقلات، في إظهار صارخ لاستهتار بمصير هؤلاء الصغار.

 وقال "لم يكن التجنيد يقتصر على حمل السلاح فحسب، بل امتد لاستغلال الأطفال في مهام شديدة الخطورة؛ إذ تُكلفهم بنقل الذخائر والإمدادات إلى الجبهات عبر طرق وعرة، وتأمين نقاط التفتيش، والمرافقة الشخصية لقادة الجماعة، مما يجعلهم أهدافًا مباشرة للاستهداف العسكري". وفي حال محاولة الهروب، كان العقاب أشد؛ حيث وثّق التقرير تعرض بعضهم للضرب والحرمان من الطعام والتهديد بالسلاح وحتى الاعتداءات الجسدية، مما اضطرهم إلى الاستسلام خوفًا من العواقب.

 

"الخروج والانضمام الطوعي"

في العشرين من عمره، يجلس عبدالرحيم في مجلس شعبي، يتحدث بثقة عن دوره في القتال، وكأنه لم يكن يومًا مجرد طفل عادي. يقول: "في البداية لم أفهم لماذا أقاتل، لكن الآن أصبحت أرى نفسي جزءًا من هذه المعركة، وأدافع عن الوطن وقيادة الجماعة. هذا هو ما تعلمته، وهذا ما يجب علي فعله."

قبل ست سنوات، لم يكن عبدالرحيم سوى فتى في الرابعة عشرة، محتجزًا في سجن الأحداث بصنعاء. لم يكن يتوقع أن يأخذه مسار حياته إلى ميدان المعركة، لكنه وجد نفسه فجأة في معسكر مغلق، يخضع لتدريبات عسكرية ويتلقى دروسًا فكرية مكثفة. في البداية، لم يكن مقتنعًا، لكنه لم يكن يملك خيارًا آخر. شيئًا فشيئًا، بدأ يتقبل دوره الجديد، حتى أصبح مقتنعًا أنه ليس مجرد مقاتل، بل مدافع عن قضية الجماعة التي جندته.

عبدالرحيم ليس حالة استثنائية، بل نموذج لآلية تجنيد معقدة تبدأ بالتلقين وتنتهي بولاء مطلق. واحدة من أخطر الاستراتيجيات التي كشفها التحقيق تتمثل في استغلال الأطفال داخل دور الأيتام، وتحديدًا عند بلوغهم 16 عامًا. خلال هذه المرحلة، يخضعون لبرامج تعبئة مكثفة، تجعلهم مقتنعين بأفكار الجماعة، بحيث يصبح خيار الانضمام عند بلوغهم 17 أو 18 عامًا أمرًا "طبيعيًا"، دون الحاجة إلى تجنيدهم قسرًا.

يصف عبدالله، المشرف السابق في دار الايتام، هذه العملية، ويقول أن الأطفال في هذه المرحلة يصبحون مهيئين نفسيًا وفكريًا، بحيث لا يحتاجون إلى ضغط خارجي لدفعهم نحو القتال. ويضيف "الطفل الذي يدخل في هذه المرحلة يكون قد مرّ بسنوات من التوجيه والتعبئة. وعند خروجه من الدار، لا يرى أمامه إلا طريق الجماعة. لم يعد بحاجة إلى أن يُطلب منه الانضمام، بل يفعل ذلك بإرادته، لأنه يشعر أن هذا هو الامتداد الطبيعي لحياته داخل الدار."

 

تجنيد الأطفال: جريمة تهدد المجتمع

الدكتور ياسر الصلوي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة تعز، يؤكد أن تجنيد الأطفال ليس فقط انتهاكًا لحقوقهم الأساسية، بل هو جريمة تمس المجتمع بأسره. "الأطفال الذين يتم تجنيدهم لا يتعرضون فقط للقتل أو الإصابات، بل يواجهون أيضًا تغييرًا جذريًا في شخصياتهم وتوجهاتهم الفكرية، مما يجعلهم أدوات في صراعات بعيدة عنهم وعن واقعهم."

التجنيد القسري للأطفال يخلق أجيالًا مشوهة نفسيًا وفكريًا، غير قادرة على التكيف مع الحياة السلمية، مما يزيد من تعقيد الأزمة الإنسانية في اليمن. هؤلاء الأطفال، مثل محمد، يصبحون جسرًا لنقل العنف والتطرف إلى الأجيال المقبلة.

 

ردود الجهات المعنية: صمت رسمي وغياب المواقف الواضحة

في إطار هذا التحقيق، تم التواصل مع منظمات "Save the Children"، و"اليونيسف"، و"المنظمة الدولية للهجرة (IOM)"، و"المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)" للحصول على تعليق رسمي حول القضية، وللاستفسار عن أي تقارير أو بلاغات موثقة بهذا الشأن. إلا أن منظمة "Save the Children" اعتذرت عن الرد، فيما لم يصلنا أي رد من باقي المنظمات حتى لحظة نشر هذا التحقيق.

كما تم التواصل مع مصادر في  دور الأيتام ومصادر في وزارة الداخلية بصنعاء لطلب توضيحات وإتاحة حق الرد حول الاستفسارات الموجهة إليهم، إلا أن الجهات المعنية لم تقدم أي تصريحات رسمية حتى الآن.

قصص مثل قصة علي، ومحمد، وعبدالرحيم، ليست مجرد أرقام في تقارير حقوقية، بل هي نداء إنساني لوقف طاحونة الحرب التي تلتهم أرواح الأبرياء قبل أن تتشكل أحلامهم. هؤلاء الأطفال لم يُمنحوا فرصة الاختيار، بل سُلبت منهم طفولتهم قبل أن يدركوا ما معنى الحياة. وإن كان العالم قد اعتاد على سماع أخبار النزاعات، فلا يجب أن يعتاد على مشهد أطفال يُجبرون على القتال بدلًا من الذهاب إلى المدارس، ويُعلَّمون الكراهية بدلًا من الحب.

إن استغلال الأطفال في الحروب جريمة لا تقتصر آثارها على ضحاياها المباشرين، بل تمتد لتُحدث شروخًا عميقة في النسيج الاجتماعي، تزرع بذور العنف في أجيال قادمة، وتحكم على مجتمع بأسره بأن يبقى عالقًا في دائرة الدماء والدموع. فهل آن الأوان لإنهاء هذه المأساة قبل أن يُمحى آخر أثر لطفولة كانت يومًا نابضة بالحياة؟

 

تم حجب أسماء الأطفال والمصادر في هذا التحقيق حفاظًا على سلامتهم، والتزامًا بالمعايير الأخلاقية والحقوقية في العمل الصحفي، بما يضمن حمايتهم من أي تبعات قد تعرضهم للخطر أو الوصم، وفقًا للمواثيق الدولية لحقوق الطفل وأخلاقيات الإعلام.